السبت، 1 نوفمبر 2008

أشكال الذاكرة الإبداعية

















دراسة منهجية
الطريقة الخاصة لظهور الإبداع يعطيه تفرداً بالنوع وتفرداً بالشكل، فالأنواع الإبداعية متنوعة بقدر ما تشتمل عليه الطبيعة الإنسانية من خصائص جسمية ونفسية وعقلية والانفعالية ... إلخ فلكل نوع من الإبداع ميزاته وسماته الخاصة فالإبداع العلمي يختلف عن الإبداع الفني وفي مجال واحد قد يظهر الإبداع بأنواع مختلفة ومتمايزة فيما بينها وفقاً لنوع العلم والفن موضوع الاهتمام الإبداعي ، ويمكن أن يكون الإنسان مبدعاً في جانب ما وتقليدي في بقية الجوانب الحياتية الأخرى من الجوانب المعرفية والخصائص النفسية والمعرفية والاجتماعية ، فقد كان فارادي مفكراً أصيلاً وجريئاً في مضمار العلوم وامتثالي تقليدي في الجوانب الأخرى وكان (اللورد كلفن ) يجمع بين الإبداع العلمي والتقني أما حياته الاجتماعية كانت مرتبطة بالخصائص والمفاهيم السكوتلاندية النموذجية بمعنى أنه كان مواطناً تقليدياً وقد أشار بعض الدارسين بأن الإبداع في العلم والهندسة والفن والموسيقى وفي مجالات متنوعة أخرى تتطلب استعدادات وخصائص شخصية لكل مجال من المجالات الخاصة.
فالعلاقة القائمة بين الإبداع العام والخاص تتطلب حداً معيناً من الذكاء والخبرة في أي مجال إبداعي فعدما ترتفع نسبة الذكاء لدى بعض الأشخاص لا تدل بذاتها على طبيعة إبداعية وإنما تدل على طبيعة تستخدم المعطيات المعرفية لديها بدقة منهجية إنها قادرة على الإجابة ضمن المحتوى المعرفي المتوفر في نظامها العقلي . غير أن الذكاء من ضروريات الإبداع العلمي وخاصة في الفيزياء النظرية والرياضيات التجريدية ويمكن أن يكون الذكاء أقل نسبة في الإبداع الفني والأدبي لأنها تنطلق من استعدادات متعلقة بالمشاعر والأحاسيس ، وفي الاختبار اللفظي يحصل الكتاب على علامات أكثر من مما يحصلون عليه من اختبارات الذكاء المكاني وعند المعماريين تصبح القضية معكوسة .
(( يقول ماكينون : إذا أردنا تبسيط المسألة يمكن تمييز نوعين من الإبداع . النوع الأول يكون الناتج عنه تعبيراً عن الحالات الداخلية مثل الحاجات والتقويمات والإدراكات وغيرها وفي هذا المجال من الإبداع يظهر المبدع ما في داخله إلى العالم ونجد هذا النوع من الإبداع عند الرسامين والنحاتين التعبيريين ولدى الشعراء وكتاب القصة والدراميين والمؤلفين . أما النوع الثاني من الإبداع لا يكون مرتبط بالشخص المبدع كإنتاج إنما يكون كوسيط بين الحاجات والأهداف والمطالب المحددة خارجياً إنه نوع من الإبداع يعالج به المبدع مسائل متعلقة بوسطه العام والعالم المحيط به مستهدفاً تحقيق نتاج جديد ومناسب ويضفي على هذا الإنتاج أسلوبه الشخصي وأمثلة هذا النوع من الإبداع يوجد لدى الباحثين في الفيزياء والهندسة والصناعة والميكانيكا وغيرها ويضيف ماكينو إن المبدع في النوع الأول يحقق نتاجه من العنصر التي لم تكن موجودة في إدراكه أما النوع الثاني فإن النتاج مركب من العناصر الموجودة مسبقاً في إدراكه وعناصر جديدة مضافة وما يجمع الاثنين معاً المهندسون المعماريون حيث أنهم علماء وفنانون في الوقت ذاته.))
(عالم المعرفة – الإبداع العام والخاص – تأليف – الكسندرو روشكا – ترجمة – د: غان عبد الحي ابو فخر – صادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب – دولة الكويت –لعام 1989)
ويمكن إدراج الإبداع العلمي والتقني أو الفني انطلاقاً الفائدة والتوظيف الإستعمالي للأعمال الإبداعية والهدف من الابتكارات التقنية هو قدرة توظيفها في مسائل خدمية وفي جوانب متعددة من الحاجات الإنسانية.
فالسمات الإبداعية الخاصة هي نوعية مرتبطة بطريقة الإبداع ومظاهره المختلفة توضح مدى التعددية المرافقة للمظاهر الإبداعية بما يوضح بأن طرق الإبداع يمكن أن تجد طريقها إلى إظهار نمطية الإبداع ونوعيته بم يتفق مع تعددية العارف الإنسانية مهما بلغت من الاتساع .

آ – الإبداع العلمي والتقني
يتصف العلماء المبدعون في المجالات العلمية والتقنية بالموضوعية في جميع أعمالهم وأبحاثهم إنهم يخضعون الظواهر المدروسة للفحص والتدقيق وتركيب الأجزاء المفككة ومواظبة مستمرة على العمل بدون ملل إنهم يملكون دوافع قوية للمثابرة والعمل الجاد للوصول إلى نتيجة مهما كانت طبيعتها سلبية أم ايجابية، يدخلون واقع المغامرة والكشف عن توقعاتهم المشكلة والاستفادة القصوى من هذه التوقعات.
فالعلماء المبدعون يمتلكون نشاط ومعرفة متوازنة ومعلومات وخبرات وإجراءات يعيدون تركيبها مع معلومات الذاكرة وفق معطيات جديدة ، ومهما تكن طبيعة الشخصية الفردية هناك قواسم مشتركة فيما بينها سواء كانوا فيزيائيين نظريين أو نظريين بيولوجيون أو فيزيولوجيون أم نباتيون ، علماء وراثة أو بيو كيماويون ، يمكن اعتبارهم مجموعات متشابهة في دائرة العمل المبدع . وفي العلوم الاجتماعية علم نفس أو أنثرولوجيا تجمعهم حقيقة علمية واحدة هي اندماجهم القوي مع العلم المرافق لتوجهاتهم . إنهم يعملون لساعات طويلة وحتى لسنوات فالاهتمام عندهم طويل وعميق ، والعلماء المبدعون يستخدمون الأساليب والاستراتيجيات الاستكشافية نفسها ،فالاختلاف في العمليات العلمية الإبداعية أقل فيما يوازيها من الإبداع الفني فالاستعدادات العلمية تنطوي على ليونة تفاعلية بين العوامل العقلية والاستعدادات النفسية وعامل الواقعية والطبع والمزاج من جهة أخرى،كما أن الجميع يهتمون بالمناقشة وتبادل الأفكار ومعالجة المعلومات . فالمبدعون في المجالات العلمية والتقنية تسهم أعمالهم في التقدم العلمي والتقني وتعطي الحركة الحضارية دفعات متوازنة نحو حياة أفضل. وتلعب المكافآت المادية والمعنوية دوراً مهماً في تحفيز النشاط الإبداعي، وتتمثل بالترقية والتعويضات والاختصاص والاشتراك بالندوات والمؤتمرات الوطنية والعالمية وتأمين المتطلبات الضرورية للبحث والإبداع وتمنح هذه الأمور ضمن القيمة المعيارية لطبيعة الإنتاج المبدع . والطاقات الإبداعية الكامنة يمكن تنشيطها عن طريق التحفيز الاجتماعي وفق اهتمام عالي المستوى من خلال الاحترام والتكريم وإتاحة الفرص المناسبة للمبدعين لتمكينهم من العمل بحرية ومسؤولية إنسانية.

ب – الإبداع الفني
يوجد استعدادات خاصة في مجال الإبداع الفني قد تختلف في المجال الواحد أو من مجال لأخر وقد تكون مرتبطة بطبيعة الشخصية وطريقة تفكيرها . فالرسم يحتاج لحاصل ذكاء عادي أما الرسم الرمزي أو التحليلي وحتى الكاريكاتوري يحتاج لحاصل ذكاء أعلى مضافاً لميزات الاستعدادات الشخصية. ترتبط أربع أنواع من المعلومات بطبيعة الرسوم ( الأشكال ، الرموز، المعاني، السلوك )إنها تمثل معلومات عيانية حسية وإدراكية ترتبط بتلازمية إنتاج الفنانين وفي مجال أخر ترتبط بمعلومات إدراكية بصرية من قبل الرسامين المصورين والنحاتين ومصممي الأزياء أما الفنانون المرتبط إنتاجهم بالمعلومات الإدراكية السمعية هم مؤلفو القطع الموسيقية إنهم يراعون التوافق والانسجام في طبيعة المقطوعات الموسيقية والشعراء الذين ينظمون القصائد الشعرية وفق موسيقى وإيقاع معين. غير أن المعلومات الحسية الحركية تظهر عند الراقصين ومؤلفي إيقاع الخطوات الراقصة ومنفذيها ، وتلعب المعلومات النظرية دوراً هاماً في المساعدة على أداء الإيقاع. أما المعلومات المرتبطة بمعاني الكلمات وأساليب الاتصال الفظي نراها متوفرة في العقول العلمية والقانونية والكتاب. بينما المعلومات السلوكية فإنه مرتبطة بالعقول العاملة في الحقول الاجتماعية والسياسية ، فالسياسيون والأطباء النفسيون والمختصون الاجتماعيون يمتلكون القدرة على إقناع الآخرين وحل مشكلاتهم . غير أن الكثير من الفنانين يعالجون موضوعاتهم بأكثر من معلومة للوصول إلى إنتاج فني إبداعي إنهم يحملون صيغ المعاني والأشكال الناتجة عنها ،فالقدرة الإبداعية في عقليتهم قادرة على الربط بطريقة تفاعلية بين المعاني والأساليب المختلفة ، وتضمين الإنتاج الفني لمسات مذهلة ومؤثرة في النفس الإنسانية، فالإبداع الموسيقي لا يتطلب الاستعدادات الخاصة وحسب بل يرتبط بالنشاط العملي والتمرين المستمر. وعندما يتوفر الاندماج الإدراكي في الرسم والآثار التصويرية وفهم العلاقة بين الضوء والمنظور والأجزاء الأخرى تظهر لوحات إبداعية عندما تكون مترافقة مع الرغبة الشديدة للرسم. ويلعب الإبداع الأدبي دوراً هاماً في العمليات العقلية والتفكير المنطلق المتحرر من القيود الشكلية لطبيعة سلوك الناس ورغباتهم وانفعالاتهم وميولهم إنه يتعمق في فهم الخصائص والميزات المبهمة في النفسية البشرية ، فالأديب يختلف عن العالم في نظام الملاحظة والاهتمام لأنه يعكس ما هو خاص وجوهري في موضوع ملاحظاته إنه يدخل إلى العام الداخلي للآخرين ويفهم الأحاسيس والمشاعر ويعرف كيف ينظمها لتكتسب تعبيراً جمالياً مناسباً ويربطها مع خبرته وانطباعاته عن الحياة المكونة في ضميره . وبقدر الغنى العقلي للشخصية الأدبية تكون التداعيات أكثر تنوعاً وعدداً ويرتفع عنده مستوى الإبداع ويدخل ضمن خصائصه الشخصية مثل ( الطبع احترام الذات المسؤولية تجاه المجتمع وفهمه للمشكلات والقواعد الأخلاقية والجمالية. فالتباين الإبداعي بين الإنتاج العلمي والفني يندرج ضمن طبيعة النشاط والمعلومات والتقنيات ووسائل التعبير ، وهناك نوع من الفن والعلم يندمج فيه الإبداعان في نظام متسق متكامل الظهور ( كفن العمارة ) فالنشاط الإبداعي يخرج عنه الإنتاج أصيلاً بقيمته العالية والمفيدة تحمل في طياتها معنى خلودها في التراث والنشاط الإنساني والإبداع مرتبط بالعمليات الاستكشافية للتفكير والدافعية المتوقدة والقوية والاستعداد المتفجر بالطاقات الخلاقة يعبر نحو العام والعالم بما هو فردي وخاص لأن المقاييس والمعايير النشيطة والمؤثرة ترتبط يبعضها لترسم الأبعاد الكاملة للإنتاج المبدع ، ويتحد المسار الإبداعي في مجالاته المتعددة ليخلق بنية متكاملة ذات طبيعة حضارية متحدة ومؤثرة في تقدم المجتمع وتطوره وترابط مكوناته الإنسانية.

ليست هناك تعليقات: