السبت، 1 نوفمبر 2008

أشكال الذاكرة الإبداعية

















دراسة منهجية
الطريقة الخاصة لظهور الإبداع يعطيه تفرداً بالنوع وتفرداً بالشكل، فالأنواع الإبداعية متنوعة بقدر ما تشتمل عليه الطبيعة الإنسانية من خصائص جسمية ونفسية وعقلية والانفعالية ... إلخ فلكل نوع من الإبداع ميزاته وسماته الخاصة فالإبداع العلمي يختلف عن الإبداع الفني وفي مجال واحد قد يظهر الإبداع بأنواع مختلفة ومتمايزة فيما بينها وفقاً لنوع العلم والفن موضوع الاهتمام الإبداعي ، ويمكن أن يكون الإنسان مبدعاً في جانب ما وتقليدي في بقية الجوانب الحياتية الأخرى من الجوانب المعرفية والخصائص النفسية والمعرفية والاجتماعية ، فقد كان فارادي مفكراً أصيلاً وجريئاً في مضمار العلوم وامتثالي تقليدي في الجوانب الأخرى وكان (اللورد كلفن ) يجمع بين الإبداع العلمي والتقني أما حياته الاجتماعية كانت مرتبطة بالخصائص والمفاهيم السكوتلاندية النموذجية بمعنى أنه كان مواطناً تقليدياً وقد أشار بعض الدارسين بأن الإبداع في العلم والهندسة والفن والموسيقى وفي مجالات متنوعة أخرى تتطلب استعدادات وخصائص شخصية لكل مجال من المجالات الخاصة.
فالعلاقة القائمة بين الإبداع العام والخاص تتطلب حداً معيناً من الذكاء والخبرة في أي مجال إبداعي فعدما ترتفع نسبة الذكاء لدى بعض الأشخاص لا تدل بذاتها على طبيعة إبداعية وإنما تدل على طبيعة تستخدم المعطيات المعرفية لديها بدقة منهجية إنها قادرة على الإجابة ضمن المحتوى المعرفي المتوفر في نظامها العقلي . غير أن الذكاء من ضروريات الإبداع العلمي وخاصة في الفيزياء النظرية والرياضيات التجريدية ويمكن أن يكون الذكاء أقل نسبة في الإبداع الفني والأدبي لأنها تنطلق من استعدادات متعلقة بالمشاعر والأحاسيس ، وفي الاختبار اللفظي يحصل الكتاب على علامات أكثر من مما يحصلون عليه من اختبارات الذكاء المكاني وعند المعماريين تصبح القضية معكوسة .
(( يقول ماكينون : إذا أردنا تبسيط المسألة يمكن تمييز نوعين من الإبداع . النوع الأول يكون الناتج عنه تعبيراً عن الحالات الداخلية مثل الحاجات والتقويمات والإدراكات وغيرها وفي هذا المجال من الإبداع يظهر المبدع ما في داخله إلى العالم ونجد هذا النوع من الإبداع عند الرسامين والنحاتين التعبيريين ولدى الشعراء وكتاب القصة والدراميين والمؤلفين . أما النوع الثاني من الإبداع لا يكون مرتبط بالشخص المبدع كإنتاج إنما يكون كوسيط بين الحاجات والأهداف والمطالب المحددة خارجياً إنه نوع من الإبداع يعالج به المبدع مسائل متعلقة بوسطه العام والعالم المحيط به مستهدفاً تحقيق نتاج جديد ومناسب ويضفي على هذا الإنتاج أسلوبه الشخصي وأمثلة هذا النوع من الإبداع يوجد لدى الباحثين في الفيزياء والهندسة والصناعة والميكانيكا وغيرها ويضيف ماكينو إن المبدع في النوع الأول يحقق نتاجه من العنصر التي لم تكن موجودة في إدراكه أما النوع الثاني فإن النتاج مركب من العناصر الموجودة مسبقاً في إدراكه وعناصر جديدة مضافة وما يجمع الاثنين معاً المهندسون المعماريون حيث أنهم علماء وفنانون في الوقت ذاته.))
(عالم المعرفة – الإبداع العام والخاص – تأليف – الكسندرو روشكا – ترجمة – د: غان عبد الحي ابو فخر – صادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب – دولة الكويت –لعام 1989)
ويمكن إدراج الإبداع العلمي والتقني أو الفني انطلاقاً الفائدة والتوظيف الإستعمالي للأعمال الإبداعية والهدف من الابتكارات التقنية هو قدرة توظيفها في مسائل خدمية وفي جوانب متعددة من الحاجات الإنسانية.
فالسمات الإبداعية الخاصة هي نوعية مرتبطة بطريقة الإبداع ومظاهره المختلفة توضح مدى التعددية المرافقة للمظاهر الإبداعية بما يوضح بأن طرق الإبداع يمكن أن تجد طريقها إلى إظهار نمطية الإبداع ونوعيته بم يتفق مع تعددية العارف الإنسانية مهما بلغت من الاتساع .

آ – الإبداع العلمي والتقني
يتصف العلماء المبدعون في المجالات العلمية والتقنية بالموضوعية في جميع أعمالهم وأبحاثهم إنهم يخضعون الظواهر المدروسة للفحص والتدقيق وتركيب الأجزاء المفككة ومواظبة مستمرة على العمل بدون ملل إنهم يملكون دوافع قوية للمثابرة والعمل الجاد للوصول إلى نتيجة مهما كانت طبيعتها سلبية أم ايجابية، يدخلون واقع المغامرة والكشف عن توقعاتهم المشكلة والاستفادة القصوى من هذه التوقعات.
فالعلماء المبدعون يمتلكون نشاط ومعرفة متوازنة ومعلومات وخبرات وإجراءات يعيدون تركيبها مع معلومات الذاكرة وفق معطيات جديدة ، ومهما تكن طبيعة الشخصية الفردية هناك قواسم مشتركة فيما بينها سواء كانوا فيزيائيين نظريين أو نظريين بيولوجيون أو فيزيولوجيون أم نباتيون ، علماء وراثة أو بيو كيماويون ، يمكن اعتبارهم مجموعات متشابهة في دائرة العمل المبدع . وفي العلوم الاجتماعية علم نفس أو أنثرولوجيا تجمعهم حقيقة علمية واحدة هي اندماجهم القوي مع العلم المرافق لتوجهاتهم . إنهم يعملون لساعات طويلة وحتى لسنوات فالاهتمام عندهم طويل وعميق ، والعلماء المبدعون يستخدمون الأساليب والاستراتيجيات الاستكشافية نفسها ،فالاختلاف في العمليات العلمية الإبداعية أقل فيما يوازيها من الإبداع الفني فالاستعدادات العلمية تنطوي على ليونة تفاعلية بين العوامل العقلية والاستعدادات النفسية وعامل الواقعية والطبع والمزاج من جهة أخرى،كما أن الجميع يهتمون بالمناقشة وتبادل الأفكار ومعالجة المعلومات . فالمبدعون في المجالات العلمية والتقنية تسهم أعمالهم في التقدم العلمي والتقني وتعطي الحركة الحضارية دفعات متوازنة نحو حياة أفضل. وتلعب المكافآت المادية والمعنوية دوراً مهماً في تحفيز النشاط الإبداعي، وتتمثل بالترقية والتعويضات والاختصاص والاشتراك بالندوات والمؤتمرات الوطنية والعالمية وتأمين المتطلبات الضرورية للبحث والإبداع وتمنح هذه الأمور ضمن القيمة المعيارية لطبيعة الإنتاج المبدع . والطاقات الإبداعية الكامنة يمكن تنشيطها عن طريق التحفيز الاجتماعي وفق اهتمام عالي المستوى من خلال الاحترام والتكريم وإتاحة الفرص المناسبة للمبدعين لتمكينهم من العمل بحرية ومسؤولية إنسانية.

ب – الإبداع الفني
يوجد استعدادات خاصة في مجال الإبداع الفني قد تختلف في المجال الواحد أو من مجال لأخر وقد تكون مرتبطة بطبيعة الشخصية وطريقة تفكيرها . فالرسم يحتاج لحاصل ذكاء عادي أما الرسم الرمزي أو التحليلي وحتى الكاريكاتوري يحتاج لحاصل ذكاء أعلى مضافاً لميزات الاستعدادات الشخصية. ترتبط أربع أنواع من المعلومات بطبيعة الرسوم ( الأشكال ، الرموز، المعاني، السلوك )إنها تمثل معلومات عيانية حسية وإدراكية ترتبط بتلازمية إنتاج الفنانين وفي مجال أخر ترتبط بمعلومات إدراكية بصرية من قبل الرسامين المصورين والنحاتين ومصممي الأزياء أما الفنانون المرتبط إنتاجهم بالمعلومات الإدراكية السمعية هم مؤلفو القطع الموسيقية إنهم يراعون التوافق والانسجام في طبيعة المقطوعات الموسيقية والشعراء الذين ينظمون القصائد الشعرية وفق موسيقى وإيقاع معين. غير أن المعلومات الحسية الحركية تظهر عند الراقصين ومؤلفي إيقاع الخطوات الراقصة ومنفذيها ، وتلعب المعلومات النظرية دوراً هاماً في المساعدة على أداء الإيقاع. أما المعلومات المرتبطة بمعاني الكلمات وأساليب الاتصال الفظي نراها متوفرة في العقول العلمية والقانونية والكتاب. بينما المعلومات السلوكية فإنه مرتبطة بالعقول العاملة في الحقول الاجتماعية والسياسية ، فالسياسيون والأطباء النفسيون والمختصون الاجتماعيون يمتلكون القدرة على إقناع الآخرين وحل مشكلاتهم . غير أن الكثير من الفنانين يعالجون موضوعاتهم بأكثر من معلومة للوصول إلى إنتاج فني إبداعي إنهم يحملون صيغ المعاني والأشكال الناتجة عنها ،فالقدرة الإبداعية في عقليتهم قادرة على الربط بطريقة تفاعلية بين المعاني والأساليب المختلفة ، وتضمين الإنتاج الفني لمسات مذهلة ومؤثرة في النفس الإنسانية، فالإبداع الموسيقي لا يتطلب الاستعدادات الخاصة وحسب بل يرتبط بالنشاط العملي والتمرين المستمر. وعندما يتوفر الاندماج الإدراكي في الرسم والآثار التصويرية وفهم العلاقة بين الضوء والمنظور والأجزاء الأخرى تظهر لوحات إبداعية عندما تكون مترافقة مع الرغبة الشديدة للرسم. ويلعب الإبداع الأدبي دوراً هاماً في العمليات العقلية والتفكير المنطلق المتحرر من القيود الشكلية لطبيعة سلوك الناس ورغباتهم وانفعالاتهم وميولهم إنه يتعمق في فهم الخصائص والميزات المبهمة في النفسية البشرية ، فالأديب يختلف عن العالم في نظام الملاحظة والاهتمام لأنه يعكس ما هو خاص وجوهري في موضوع ملاحظاته إنه يدخل إلى العام الداخلي للآخرين ويفهم الأحاسيس والمشاعر ويعرف كيف ينظمها لتكتسب تعبيراً جمالياً مناسباً ويربطها مع خبرته وانطباعاته عن الحياة المكونة في ضميره . وبقدر الغنى العقلي للشخصية الأدبية تكون التداعيات أكثر تنوعاً وعدداً ويرتفع عنده مستوى الإبداع ويدخل ضمن خصائصه الشخصية مثل ( الطبع احترام الذات المسؤولية تجاه المجتمع وفهمه للمشكلات والقواعد الأخلاقية والجمالية. فالتباين الإبداعي بين الإنتاج العلمي والفني يندرج ضمن طبيعة النشاط والمعلومات والتقنيات ووسائل التعبير ، وهناك نوع من الفن والعلم يندمج فيه الإبداعان في نظام متسق متكامل الظهور ( كفن العمارة ) فالنشاط الإبداعي يخرج عنه الإنتاج أصيلاً بقيمته العالية والمفيدة تحمل في طياتها معنى خلودها في التراث والنشاط الإنساني والإبداع مرتبط بالعمليات الاستكشافية للتفكير والدافعية المتوقدة والقوية والاستعداد المتفجر بالطاقات الخلاقة يعبر نحو العام والعالم بما هو فردي وخاص لأن المقاييس والمعايير النشيطة والمؤثرة ترتبط يبعضها لترسم الأبعاد الكاملة للإنتاج المبدع ، ويتحد المسار الإبداعي في مجالاته المتعددة ليخلق بنية متكاملة ذات طبيعة حضارية متحدة ومؤثرة في تقدم المجتمع وتطوره وترابط مكوناته الإنسانية.

الطبيعة العضوية للنشاط الإبداعي
















تمايز الإبداع الإنساني:
القدرة العقلية والطريقة السلوكية في النوع الإنساني مختلفة عن مثيلاتها عند الكائنات الأدنى فالذاكرة العقلية عند الإنسان واسعة ومتسعة قادرة على زج كم هائل من المعارف والمعلومات والاحتفاظ بها وغالباً ما يتم تنقيحها وتوجيهها لتناسب النظام ألمفاهيمي لكل إنسان ويمكن التوصل إل استنتاجات مذهلة في عملية الربط بين معطياتها المختلفة لتخرج للعام وكأنها أفكار جديدة فالقدرة العقلية عند الإنسان تتجاوز الأبعاد المرسومة في إطارها الزمني أحياناً وهكذا تظهر العبقرية كنوع من معطيات جديدة تماماً فالأهداف الإنسانية لا تتحقق بالأعمال الجسدية بقدر ما تتحقق بالأعمال الذهنية كذلك ، وينغمس العقل البشري في تحصيل المعرفة من خلال البحث في العلاقات بن الحقائق يرتب مجرياتها بما يخدم توجهاته ويعطيها قدرة التحقيق في عالمه الخارجي ، فالنظريات الاجتماعية هي توليف مفاهيم مرتبطة بالحياة الإنسانية قادرة على التحقق في نظام سلوكي يدخل الطبيعة الاجتماعية في نظام وعلاقات جديدة مغايرة لطبيعة الوجود السابق للنظرية . فالمحيط الداخلي للعقل البشري يتوسع ويلزم المحيط الخارجي بالتوسع المرافق له فالأهداف المحددة والرغبة والتفكير عبارة عن اختيارات ذاتية وسلوكية محددة ضمن النهج الحياتي المتغير وفق طبيعة الأفكار المتغيرة في جميع العصور .
أ – التخيل
هو عنصر مضاف للعقل البشري لمفهوم العقل البشري ، فالتنوع المتزايد للذخيرة المعرفية وتعددية المعارف والمفاهيم و البنى المتعاظمة في وسائل الحياة وغيرها من منجزات الحضارة البشرية أسست واقعاً فكرياً مرتبط بعملية ذهنية على قدر من الأهمية هو التخيل . إنه ربط منظومة من من المعطيات الذهنية وإدراجها في نظام تعبيري أو تصويري ويمكن أن تدخل الذات الفردية كعنصر فاعل بهذه الموهبة العظيمة لأنها من أكثر الصفات تمايزاً لأنه يجعل الطاقات الإبداعية مخططة في نظام المخيلة ، يتم تركيبها وفحصها عقلياً قبل أن تدخل دائرة التعبير أو التطبيق فالخيل هو صور مراقبة من العقل تجميع يتم تحليلها والتأكد من سلامتها وقابلية عطائها اللاحق. ويمكن للعقل أن يتخيل أنظمة مغايرة لطبيعة العصر ومفاهيمه المعرفية ن يضع القواعد والتصورات والأحداث ضمن مجرى ذهني غير مرتبط بالحيلة ولا بالإنجازات القائمة في وجودها ، ومن خلال التطور المعرفي والتقني يوصل العالم إلى تطبيق أنظمة حياتية سابقة لزمنها ، كما حدث لجول فيرن عندما تخيل مجموعة من قصص الخيال العلمي حول رحلات خيالية بين الكواكب في زمن لم ينجز يعد أي مركبة فضائية ، وبعد التطور العلمي توصل العلم إلى إطلاق مركبات فضائية لاكتشاف الكواكب والبحث في مجالات الفضاء المختلفة لقد توصل العلم إلى تطبيق نظام التخيل عند جون فيرن فالحقائق المكتسبة من خلال التخيل تندرج ضمن منجزات العقل البشري.





ب – اللاشعور:
مجموعة من الأفكار والتصورات والأحاسيس وشتى أنواع المعارف تسكن خلف جدار الوعي بانتظار خروجها عند الضرورة . ضمن هذه المساحة المخفية تجري جميع أنواع الاختيارات والمقارنات بين شتى معطيات الأفكار تراقب ما يدور في نشاط العقل من مسائل جوهري وأبحاث جارية في إطار الوعي ومجمل الصياغات الفكرية الضرورية ألناشئه من اهتمامات العقل ذاته وعندما ينخرط العقل في مسائل منتقاة بعناية ولغاية محددة يضع أمامه مجموعة من المقترحات ذات قيمة معرفية لحل واكتشاف صياغات وقوانين جديدة وعندما يتوجه بطاقته الذاتية الواعية إلى معرفة قيد الكشف ويصعب عليه إدراك أنماط بنائها ينشط اللاشعور المرافق لجميع حالات الوعي هذا لتقديم مقترحاته عند الضرورة وفي المكان هذا يمكن أن تتواجد روابط العالم الكلية من مادة وحياة وفكر قادرة عل رشق نماذج الوعي المتغير والمبهم بومض الحلول الواضحة عندما يستغرق العقل في البحث عن مسائل مرتبطة بحالته الذهنية عندما يتخبط في محيط معرفته دون أن يلاقي جواب . يعمل اللاشعور لإعطاء نظام العقل حاجة معرفية بصورة فجائية فيظهر الإبداع معبراً عن كشف غير مسبوق وبصورة غير معروفة المصدر وكأن العقل يريد أن يقول عملت كل ما في استطاعتي وإمكانياتي في دود المعارف المتوفرة في بنائي لتحقيق هذا الكشف لكنه لم يتوفر في داخلي وبينما أنا منهمك وتعب من العمل الطويل والمضني أيقظني منبه خفي ورمى أمامي ما كنت أبحث عنه واختفى قبل خروجي من واقع الدهشة المفرطة للتعرف غلى شخصيته وشكله ، هذا اللاشعور الحاضر الغائب في كل لحظة من وجودنا دون أن ندري ، ويمكن أن يكون اللاشعور برنامج استدعاء الملفات المنسية والمخزنة في الذاكرة العقلية لأن الطريقة التي يعمل بها اللاشعور تستوجب سجلاً كاملً لمجموع المعلومات الواردة للعقل البشري . في أي عصر من العصور يرتبط بنا جميع المعلمات الناقصة من هذه العصور وكأن العقل البشري لم يكن في أوقات زمنية ماضية قادراً على ردم الفجوات المعرفية في بنائه فاحتفظ بها إلى وقت اكتمالها وهكذا نرى بأن الاكتشافات والإبداعات تأتي لملئ التغيرات والنواقص في تاريخ التطور البشري.

ج - -الإبداع

الإبداع قدرة عطاء الجديد في ميادين الحياة كافة ، وطاقة كمال النفس نحو وعي ذاتها في عالم الوجود والإبداع مهمة عقلية رائدة في التصدي للمشاكل الإنسانية، يوظف نفسه لإعطاء الحياة معناها الحقيقي ، ويمكن أن يظهر الإبداع بطريقه استنتاجيه عن طريق هجوم الأفكار المباشر يتم البحث من خلالها بكل عناية وانتباه ودقة عن علاقات غير معروفة وجديدة على العقل البشري . لقد كانت تظهر هذه الحالة عند العالم الكبير أديسون عندما يقوم باختراعاته وكانت تظهر للعالم أنشتاين أثناء تطويره لنظرياته هذه الطريقة ليست الوحيدة القادرة على إظهار الإبداع كحقيقة مكتملة قادرة على إعطاء النوع الإنساني قوة التفوق في إرساء دعائم الإنتاج لنوعية بنيته الحضارية .
غير أن الإبداع الذي أرغب في توضيحه هو الإبداع المنطوي على فوائد للبشرية من خلال وجوده وتعميمه على كامل النشاط الإنساني . لأن استغلال الإبداع لغايات مسيئة للحياة وطاقات تخريبية هدامة لا أعتبره إبداعاً إنه استغلال الإبداع لأهداف بعيدة عن الأخلاقية وتحمل في بنيتها أعمال هدامة مخيفة للحياة الإنسانية ، وكل استغلال إبداعي يرمي إلى إشاعة الرعب والموت عنصر شاذ سيلفظه الوجود الإنساني خارج دائرة الفعل في المستقبل القادم وعندما لا تقوم الإنسانية بواجبها لمنع التدمير ستقع في نظام كإرثي رهيب يؤدي إلى ظهور مواقف وأفعال مذلة للكرامة الإنسانية مغير مخلصة لحياتنا النوعية.
من جهة أخرى قد تنشأ فكرة جديدة بصورة تلقائية في الذهن تبدو وكأنها انبثقت من العدم في وقت يكون الإنسان فيه مشغولاً في أمر مختلف تماماً ، كما حدث لعالم الرياضيات الشهير هنري بوان كاريه في عام (1924)
عندما ظلّ منشغلاً بمسألة الدلالات دون الوصول إلى نتيجة وفي إحدى الليالي وبعد شربه القهوة طار النوم من عينيه وبدأ يتمشى فتواردت على ذهنه أفكار على شكل حشود تتصادم وتتشابك لتؤلف أخيراً تركيبات ثابتة معينة أكتشف منها وجود الدلالات الفوشينية ، وأثناء قيامه برحلة جيولوجية مستريح الذهن من التفكير بالرياضيات خطرت له فكرة وهو يصعد الباص فكان اكتشافه هو أن التحويلات التي استخدمها تماثل تلك المستخدمة في الهندسة غير التقليدية وكان ذلك تجلياً عظيماً.
ومثل أخر عندما اكتشف برهان أوتولوي الوسيط الكيميائي للسيالة العصبية فقد ظهر له الموضوع بكل وضوح في منامه وعندما استيقظ لم يتذكر منه شيئاً وفي اليوم الثاني حالفه الحظ إذ رأى الحلم مرة أخرى فسجل محتواه وعاد للنوم وفي اليوم الثاني أجرى في المختبر تجربة حاسم أثبتت صحة الحل الذي رآه في المنام.
فالطرق الإبداعية تعبر بمجملها عن حالة عقلية خاصة بالشخصية لأن النظام الإبداعي متعدد الوجوه ناتج عن خلفيه غنية من المعرفة والخبرة المتواصلة الملازمة لطبيعة الإنتاج المبدع وفي الميادين العلمية ينبغي أن يعمل الإنسان بجد ودأب وروية كي يحل جوانب مسألة ما أو يصوغ مجموعة من الحقائق غير المترابطة ظاهرياً على شكل بنية مكتملة تؤلف مطلباً علمياً ملحاً. أما في مجال الفنون فالمبدع يحلم ويطيل التفكير بلوحة فنية أو مقطوعة موسيقية يشعر أنها مخبأة في خزينة الكون ،فيسعى إلى إخراجها إلى الوجود وفي مجال الشعر ينتاب الشاعر نوع من الاستغراق بشيء جميل وصور مولدة للأحاسيس والمشاعر إنه يجاهد لنقل إلى الواقع العقلي تلك التصورات الغامضة المتشكلة في خياله بشكل مؤثر وجديد.
فالأعمال الإبداعية تفتح طريقها إلى الظهور بالرغم من ارادة الناس وتمتلك من القوة في بنائها مؤثرات تجعلها تتفوق عل جميع الأحكام والعراقيل الموضوعة أمامها إنها تسل بنت الحياة حاجتها إليها فالأعمال الإبداعية نظام ارتقاء العقل نحو الكمال.

الإبداع مرتبط بالعقل







1- الإبداع والمعرفة العقلية
الإبداع ابتكار مرتبط بالوجود والحاجة ومتطلبات التطور والتغير إنه القدرة على الكشف والاختراع عن آلات ومعاني ومدلولات وأبحاث وجميع ما يرتبط بالحاجة المادية والعقلية والجمالية للطبيعة الإنسانية .
والمعرفة هي العطاء الإنساني للعقل، فالإجمالية المرتبطة بالحياة البشرية من إنتاج عقلي وفني وعلمي ومجمل الاختراعات الإنسانية، بمعنى النتاج الكلي للبشر المرتبط بوعي الكائن البشري هو وعي الوجود المرتبط بإنتاجنا التاريخي كتشكيل معرفي غايته الملائمة بين وجود الإنسان وحضارة عصره حضارة تطورت عن الجهد التاريخي الإجمالي إنها المنجزات القائمة في جميع العصور التاريخية المرافقة لحالات الوعي المتغير في العقل الإنساني.
فالمعرفة والإبداع وجودان متلازمان ومترابطان مرتبطان بعلاقة تداخليه مجزرة في أعماق التاريخ البشري ومستمرة في تطوره وبنائه الصاعد فالوجود المعرفي يوفر الأساس البنيوي لنوعية الإبداع العقلي ولإبداع العقلي هو السجل الكلي للمعرفة الإنسانية .
كل إبداع مرتبط بالمعرفة الزمنية المكانية والطبيعة التطورية الجارية في نظام عصرها فالمحراث اليدوي أبداع عقلي ارتبط بالقيمة المعرفية الحاجة الزراعية في عصرها البدائي ، والتتالي الإبداعي هو حاجة ماسة لتأمين البناء المعرفي العقلي والمادي ضمن نظام التسلسل الزمني ، هنا يمكن ان نقول إن الإبداع الجاري يصب ضمن الحاجة إليه في النشاط الاجتماعي الجاري نحو مستقبل أكثر ازدهاراً واحتراماً للإنسانية ضمن نظامها التفاعلي، لأن الحياة المعرفية القائمة في العصر الراهن حضارة معرفية تداخليه سريعة التنقل والانتقال في صميم العقل الإنساني كوجود في نظام أرضي إنها معرفة على قدر كبير من التوسع نظراً لسهولة التواصل والاتصال في المعارف الإنسانية ومهما بلغ المنع من قوة حجب المعارف لن يكون قادراً على منع الإبداع من تعميم نفسه عل الساحة المعرفية للبشر ، قد تتأثر المعارف في مناطق من العالم وتنكمش على نفسها خوفاً من الانصهار مع الثقافات الأخرى غير أن قنوات الضخ المعرفي تظل قائمة تحمل للعقل أينما وجد على سطح المعمورة معلومات واكتشافات جديدة ستغير أجلاً أو عاجلاً البناء العقلي للبشر بالشكل الكلي وكل صرخة قائمة في الوقت الراهن لغزل الوعي عن محيطه الكوني مجرد استغاثة قبل حلول لحظة الغرق بالرغم بأن جميع المعارف الحالية ستتحول غلى ذكرى كذكرى العلم والأدب في العصور السابقة.
فالدراسات المنهجية الجارية لتحديد الخصائص البنيوية للطبيعة العبقرية تدور ضمن مدارات واتجاهات متعددة منهم من عزاها للخصائص البنيوية والسلوكية في الطفولة ومنهم من ردها إلى الخصائص الاجتماعية وبعض الدارسين ردها إلى الخصائص الوراثية والطفرات العقلية في مسار الولادات المتكررة كما أن فرويد عزاها إلى تأثير اللاشعور على العقل الواعي فتخرج إلى سلوك وتفكير متفرد ناتج عن تأثيرات لاواعية في النفس البشرية.
ومهم يكن من أمر الطبيعة العبقرية للفرد فإن وجوده يرتبط بإنجازات تفوق القدرات العادية للبشر إنها تحطم الجمود والرتابة في العقل البشري. وغالباً ما يرتبط الإبداع بثقافة معينة كدليل مؤشر على التأثير المتبادل بين الخصوصية والإبداع فيحدد الطريقة المعبرة عن الإبداع ضمن وجوده الثقافي إنه نوع من الإبداع العقلي المحلي الموجه نحو ثقافة بعينها.
وتندرج نوعية عبقرية لتشكل انبثاقاً إبداعياً مؤثراً على جميع البنى العقلية مهما كان موقعها في البناء العالمي وهناك نوعية عبقرية كشكسبير مثلاً يندرج تأثيرها بشكل شامل على الطبيعة البشرية ويحتفظون بشهرة على مدى أجيال متلاحقة ومؤثرة في ثقافات مختلفة . وفيما يتعلق بالعلوم والاختراعات تجعل بعض الإبداعات قابلة للبقاء في المستقبل أكثر من تجليات واختراعات أخرى وغالباً ما تظل مساهمات إبداعية مجهولة في حينها .
إن الإبداعات والاكتشافات المبدعة ترسم ملامح متغيرة في طبيعة الوجود وتحدد قدرتها على الخروج نحو المحيط الوسع .